السودان- بين ركام الحرب، تحديات الإعمار، وآمال المستقبل

من خلال نافذة الطائرة، التي حطت للمرة الأولى في مطار الخرطوم منذ اندلاع الحرب، تجلت نظرات الجنرال عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي، كئيبة وشاردة، وهو يتأمل آثار الدمار والخراب والبؤس التي خلفتها المعارك الطاحنة.
لم ينعم البرهان بالسرور، على الرغم من أن هذا الهبوط يمثل فصلًا جديدًا من الانتصارات المتتالية، وبداية لمسيرة الإعمار، وانتقال مركز السلطة من ساحل البحر الأحمر إلى ملتقى النيلين.. إلا أن المشهد المحيط يثير تساؤلات جوهرية حول إمكانية استعادة الدولة السودانية من تحت وطأة الحرب المدمرة، والانتقال من براثن الألم إلى رحاب الأمل.
حجم الدمار وتحديات الإعمار
خلال جولة وجيزة في أروقة مجلس الوزراء، والقصر الرئاسي، والبنك المركزي، وبعض الجامعات العريقة ومراكز البحوث المرموقة، ومقر الوثائق القومية، والدار السودانية للكتب، وهيئة الإذاعة والتلفزيون، اتضح أن كل شيء قد تحطم، ويتطلب جهدًا جبارًا لإعادة الحياة إليه، علاوة على ذلك، تعرضت مخطوطات وآثار نفيسة للتخريب والنهب، مما يثير تساؤلات حول كيفية استعادتها، وتأمين الموارد المالية اللازمة لإعادة البناء والترميم؟
ربما يكون من الصعب تجاهل حقيقة أن أتون الحرب لم ينطفئ بعد؛ إذ لا تزال أغلب مدن إقليم دارفور وأجزاء واسعة من كردفان تحت سيطرة مليشيا الجنجويد، وتحتاج مدينة الفاشر على وجه الخصوص، آخر معاقل الصمود في دارفور، إلى عمليات إنزال جوي عاجلة لإنقاذها من شبح المجاعة والحصار المفروض عليها عمدًا، ورفض حميدتي لأي تهدئة إنسانية بشأنها لإخضاعها بعد نفاد المخزون الغذائي والطبي، وذلك بعد تعثر أكثر من مائتي محاولة لاقتحامها بالقوة الغاشمة.
تحولات ميدانية ونجاحات منتظرة
في شهر مايو/ أيار من عام 2025، كشف الجيش السوداني عن خريطة جديدة للمناطق الجغرافية الخاضعة لسيطرته، والتي شملت 10 ولايات سودانية بشكل كامل، و4 ولايات ينتشر فيها جزئيًا من أصل 18 ولاية، في المقابل، تسيطر مليشيا الجنجويد على 4 ولايات في دارفور وأجزاء من كردفان ومنطقة المثلث الحدودي بين السودان وليبيا ومصر.
في غضون ذلك، حققت أنظمة الدفاع الجوي الحديثة التي اقتناها الجيش السوداني مؤخرًا نجاحًا باهرًا في إسقاط وإخماد نيران الطائرات المسيرة التي كانت تطلقها قوات الدعم السريع على بورتسودان والخرطوم وعطبرة، والتي استهدفت بها محطات المياه والكهرباء.
هذه التحولات الميدانية تعني أن ما يزيد على ثلثي مساحة السودان تقريبًا باتت اليوم تحت قبضة الجيش السوداني، ويمكن الجزم بأنها أصبحت آمنة ومزدهرة اقتصاديًا واجتماعيًا، ومغرية بالعودة إليها.
خير دليل على ذلك هو الأرقام الأولية التي تشير إلى عودة ما لا يقل عن مليون سوداني منذ استعادة ولايات الوسط، بما في ذلك العاصمة الخرطوم، بينما عاد أكثر من 200 ألف سوداني من مصر طواعية خلال الأشهر القليلة الماضية، وكان آخرهم قافلة القطار السريع التي انطلقت من محطة رمسيس إلى أسوان، وهي تقل على متنها ألف سوداني، تم نقلهم بعد ذلك عبر الصحراء الشاسعة إلى وسط السودان.
وهذا يستلزم بالضرورة أن السيناريو الخفي للحرب، والذي يهدف إلى تفريغ الأرض من سكانها؛ تمهيدًا للسيطرة عليها، قد باء بالفشل الذريع، ونجح الشعب بتكاتفه مع الجيش في كسر أغلال النزوح القسري واستعادة جزء من وطنه على الأقل.
ماذا ستفعل حكومة الأمل؟
هذا الوضع الراهن يضع حكومة رئيس الوزراء الجديد، كامل إدريس، أمام تحديات جسيمة، فإعادة تنشيط الحياة اليومية والاقتصادية في هذه المرحلة الدقيقة، جنبًا إلى جنب مع سد فجوة المخاوف الأمنية المتزايدة، ومعالجة آثار الحرب المدمرة، وتفشي الجماعات المسلحة داخل المدن المكتظة بالسكان، وتوفير فرص عمل لائقة تكفل العيش الكريم، كلها مهام ملحة ومصيرية.
الحقيقة المرة هي أن آلاف السودانيين قد عانوا من التدهور الاقتصادي الحاد، وفقدوا مصادر رزقهم الأساسية، وأصبحوا بلا مأوى، وتبددت الأحلام والوظائف والمشاريع الإنتاجية الصغيرة أدراج الرياح، فكيف يمكن تعويضهم وجبر أضرارهم البالغة، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي المنشود في ظل الانهيار المتسارع لقيمة الجنيه السوداني؟
والأهم من ذلك أن الدولة -كما يبدو- تسعى جاهدة لترميم بعضًا من هذا الخراب الهائل، لكنها لم تتعامل بعد مع قضية الخرطوم باعتبارها قضية إستراتيجية ومعركة فاصلة تتطلب حشد الطاقات والأفكار والموارد.
في الوقت الذي يسعى فيه رئيس الوزراء لتمهيد الطريق نحو استكمال ما أسماه "حكومة الأمل"، وتهيئة الظروف المواتية لمشروع التعافي الشامل، تبدو صلاحياته محدودة ومكبلة.
إذ يصعب عليه التحرر من هيمنة المكون العسكري على سلطاته، ويتجلى ذلك في قيام البرهان بتشكيل لجنة سيادية برئاسة الفريق إبراهيم جابر لدعم استعادة الخدمات الأساسية وتهيئة المناخ الملائم لعودة المواطنين، وهو بذلك يقوض فكرة الحكومة المدنية ومعناها الحقيقي، أو على الأقل قد يفسر ذلك في الخارج على أنه عسكرة للعمل التنفيذي والحياة السياسية برمتها.
ناهيك عن فرض أسماء معينة في تلك الحكومة بموجب اتفاق سلام جوبا، وهيمنة المحاصصة الجهوية والعسكرية، مما قد يتسبب في تجاوز معايير الكفاءة، وصعوبة محاسبة هؤلاء الوزراء؛ لأن معادلة السلاح والقوة هي التي فرضتهم، ويستدعي ذلك للمفارقة عبارة أحد الكتاب السودانيين: "بلاد كلما حاولت أن تنهض تستند على بندقية!".
المعضلة الاقتصادية وتدهور العملة
تتجلى معضلة أخرى في الجانب الاقتصادي؛ فقد شهد الجنيه السوداني تدهورًا غير مسبوق خلال الفترة الممتدة بين عامي (2019-2025)، والتي تعتبر الأكثر قسوة وانهيارًا، ووصل سعر الدولار خلال العام الحالي إلى ما يقارب 3 آلاف جنيه، في تراجع كارثي يستدعي دق ناقوس الخطر، وإعلان حالة الطوارئ الاقتصادية.
لا ريب أن سعر الصرف يمثل مؤشرًا رئيسيًا لحالة الاقتصاد بوجه عام، ولذا فإن الأرقام الأخيرة لتدهور العملة السودانية مقابل الدولار تظهر أن الجنيه قد فقد فعليًا معظم قوته الشرائية على مر العقود الماضية، خاصة منذ عام 2019.
ويعكس هذا التدهور أزمات اقتصادية وسياسية عميقة ومتفاقمة، بالإضافة إلى الحرب، وسوء الإدارة الاقتصادية والفساد المستشري، والعجز المتواصل في تحقيق إيرادات كافية من الصادرات لتغطية الواردات، والاعتماد المفرط على تصدير الذهب دون تنويع مصادر الدخل القومي، حتى الذهب نفسه عرضة للتهريب بكميات هائلة، وذلك على الرغم من أن إنتاج السودان من الذهب قد بلغ حوالي 37 طنًا خلال النصف الأول من العام الجاري 2025، إلا أن أثره لا يبدو واضحًا في الاقتصاد الكلي، ولا حتى في قيمة الجنيه السوداني المتدهورة.
ويرجع ذلك على الأرجح إلى تكلفة مقاومة مخطط إخضاع السودان، وتوفير العملة الصعبة لتلبية متطلبات المجهود الحربي، خاصة وأن السودان قد رفض الاستدانة من الخارج، وعجز تمامًا عن استقطاب رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية الكافية لإحداث نهضة تنموية شاملة.
من المسلم به أنه كلما تفاقمت الأوضاع الاقتصادية، ازدادت رغبة الأفراد والشركات في الاحتفاظ بالدولار أو الأصول الثابتة كملجأ آمن، مما يزيد من الضغط على العملة الوطنية، فالعوامل الكامنة وراء هذا الانهيار متعددة ومتشابكة، وتتطلب معالجة جذرية تتجاوز مجرد السياسات النقدية.
بشكل عام، تتراوح تقديرات تكلفة إعادة إعمار السودان بين 300 مليار دولار للخرطوم و700 مليار دولار لبقية الأقاليم، وتشمل هذه التقديرات بالضرورة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية والاقتصاد نتيجة للحرب الدائرة في غرب السودان، وتحديدًا في إقليمي دارفور وكردفان، وهما منطقتان منتجتان للصمغ العربي والثروة الحيوانية، مما يعني خروج هذه الموارد الحيوية من ميزان الصادرات.
المشروع الوطني الشامل
إجمالاً، تتطلب هذه التحديات الجسام العمل الدؤوب على المشروع الوطني الجامع، وإصلاح مسار الحياة السياسية وتوحيد كلمة السودانيين على هدف سامي، ألا وهو استعادة الوطن وحماية مقدراته وثرواته، فالحروب على الرغم من تكرارها ووفرتها وأحيانًا لأسباب واهية أو منطقية، إلا أن الجانب المشرق فيها أنها توقظ الأمة من غفوتها العميقة، وهو ما كان يحتاجه الشعب السوداني، وكذلك النخبة السياسية والعسكرية التي استسهلت الحياة وتناست قضايا الوطن، وانشغلت بصراعاتها وشجونها الصغرى عن القضايا الكبرى المصيرية، حتى آل بها المطاف إلى مواجهة أسوأ التحديات الوجودية، واليوم نحن جميعًا نسلك طريقًا وعرًا وشائكًا وملغمًا، فهل نقاتل ببسالة ونعبره بجلد، أم نعود القهقرى إلى كهفنا القديم؟